كمانيليو

كمانيليو
قريبا في المكتبات

الأربعاء، 28 أغسطس 2013

مشــــاعر قصة قصيرة لفاطمة طلال

مشــــاعـــــر
لفاطمـــة طـــلال


كانت تقلب في الجريدة كعادتها الصباحية ‘ نظرة باهتة فوق سطور الصفحات ثم ترتشف قهوتها برتابة..
وبعد دقائق قصيرة لم تطل القت بالجريدة فوق الطاولة التي تقبع أمامها ‘ ثم نظرت الى المسجل
الذي بجانبها وأدارته..
أخذتها أنغام الموسيقى الى ماضٍ تعيس يقهر قلبها ‘ يصهر الأفكار داخل زقاق عقلها.. تذكرته
وتذكرت كلماته: لم يسعفنا القدر يا "ليلتي" الوحيدة ‘ وأبى ان يكمل معنا حلما رسمناه سويا..
اجابته: ولكن ...
هو:أعلم كم يقتلك هذا القرار ولكنه سبق وان قتلني ‘ نحن نواجه قرارا سفاحا يُدَمِر دون رحمة!
قالت له بيأس:ألا يوجد أمل آخر في ان ننتظر حتى يوافق والدي على الارتباط؟
قال وهو مطأطأ الرأس: مر عامان ونحن نحاول بلا جدوى ..
فأجابت:ولكن ما نقدم عليه الان يسمى انتحار؟
أجابها بقلبٍ كسير:وان بقيت معك ‘ أشعر وكأني أدمرك بالبطيء ‘ انتِ فتاة بينما أنا رجل ! سيأتي
يوما وتشعري بأنك تريدي أن يصبح لك منزل وعائلة ‘ فلا تجعليني أقدم على إعدامك بإنتظار
مجهول مسموم!!
استيقظت من دوامة أفكارها مرة أخرى على صوت يشدو من المذياع قائلا:
"مشاعر تشاور تودع تسافر مشاعر تموت و تحي مشاعر
يادى يادى يادى المشاعر يادى يادى يادى المشاعر
يادى يادى يادى المشاعر يادى يادى يادى المشاعر"


هزت هذه الاغنية كل ما كانت تخبأه داخل أرجائها بكت بحرقة لم تعهدها من قبل ‘ بكت وكأن
كلمات هذه الأغنية كانت سوطا يجلد مشاعرها لتنفجر راضخة ذليلة..
تذكرت قرارها حين أخبرت أهلها بانها ستسافر لبعثة لإكمال دراستها العليا خارج البلاد ‘ أرادت
أن تبتعد بقدر الإمكان عن أي شيء يذكرها بجحود أهلها ‘ بجحود العادات والتقاليد التي صلبت
حبها البريء ‘ هي التي كانت ليلة حياته أصبحت من دونه ليلة يتيمة معتمة مليئة بصخب المشاعر
السلبية.. هاجرت الى كندا وأصبحت ترسل إلى أهلها في المناسبات فقط وكأنها تريد ان تؤلمهم كما
تألمت هي ! تريدهم أن يشعروا بسقيع الفراق كما جُمرت هي به ! قطعت مع حبيبها الوصل ولكنها
لم تستطع بقطع رباطٍ يجمع بين قلبيهما..
عادت إلى الواقع من جديد على كلمات الأغنية التي تقول:
اللى غرب نفسه سافر من الام المشاعر
و اللى نفسه يعشها تانى هى هى المشاعر
و اللى داب بابتسامه من عينيه مر المشااعر
و اللى نفسه قصاد حبيبه يبان عليه حبيت مشاعر

ذهبت إلى جهازها وفتحت رسائلها الالكترونية القديمة حتى وصلت الى رسالة منه يخبرها بأنه
سيتزوج نظرا لسُنة الحياة! مؤلمة الحقيقة التي تعري بقسوة جفاء القدر!! لم تعاتبه لحظتها فهي تعلم
بأنه من حقه ان يكمل حياة لم يستطع ان يبدأها  معها ولكن ماذا عنها هي؟!! لماذا لا تستطيع
المضي كما مضى هو؟ تسأل نفسها أحيانا لدرجة تكاد ان تصيبها بذروة الجنون: هل أحب زوجته
كما أحبها هي؟ هل لمستُه لزوجته كلمستُه لها؟ هل يُصَبِح ويُمسي زوجته بكلماتٍ حنونة كما كان
يفعل معها؟ هل تروق له كما كانت تروق له؟ هل يناديها بــ "ليلته" أترى اسمها ليلى حتى يتذكرني؟
حتى لا يأتي يوما ويغفل ويناديها بإسمي؟!!
كيف جروأ على إتخاذ قرارا مثل هذا؟ كيف يبعث لي من مدينته التي أعدمت عشقنا الى سرداب
الظلام الذي أعيش بداخله ليزف لي خبر زفافه على واحدة غيري!! يا آلهي ما أقساه من خبر!!
مرت أمامها صور العديد من الرجال الذين حاولوا ان يقتحموا قلبها ولكنها كانت تستقبل محاولاتهم
دوما بالصد.. هي ترى بأنه لم يعد لها أي قوة تحمُل أخرى لتعشق من جديد ‘ قلبها أصبح مثقوبٍ
ودامي ومليء بالجروح! فمن سيشتري قلبٍ عاطب لا يقوى على الحب او التضحية او تحمل المزيد
من عناء العشق؟! هى ترى بأن جميع أسلحتها نضبت في الحرب العالمية التي قامت بينها وبين
أهلها لتفوز بجنة بعيدة المنال فخسرت كل شيء حتى نفسها.. "نفسها" التي فقدتها في الحرب ولا
تعرف هل مازالت على قيد الحياة تئن في مكانٍ ما ام انها لفظت أنفاسها في المعركة الأخيرة؟!
تقوقعت على نفسها منذ أن هجرته وهجرت وطن وأد حُبها حوالي السبعة أعوام..
هو أيضا حاول ان يحادثها كثيرا قبل زواجه ويجعلها تعود في قرار هجرانها ولكنها رفضت ‘ حلفها
بحبٍ كان يربط يوما بينهما ولكنها أيضا رفضت!!

 قال لها يوما:
أنتِ تعذبيني هكذا ‘ أشعر وكأني قاتل فأرجوكِ تزوجي حتى أطمئن عليكِ .. أريد أن أراكِ في كنف
رجل آخر حظه أوفر مني فاستطاع أن يقنع أهلك ويتزوجك..
أجابته بعند:لن أتزوج وإذا كان هذا يعذبك فلتذق معي طعم العذاب.. لا تقلق بشأني .. فقط دعني
وانظر أنت الى حياتك.. أعلم كيف هو ضغط أهلك عليك بانهم يريدوا ان يروا أطفالك فتزوج
وأرحهم.. تزوج ولا تنتظرني.. فقط دعني وارحل في سلام ..
اتاها بعد عام قائلا:أعلم ان رسالتي هذه مؤلمة ‘ فكل حرفٍ أكتبه يعريني أمام جموع من البشر
ولكن القدر والحظ يلعبان مرة اخرى على أوتار حياتي بعزفٍ وضجيج منهك جدااا .. والدي
مريض ويريد ان يراني في بيتي مع زوجة صالحة طيبة تراعني قبل أن يأتيه الأجل .. كم أشعر
بحماقتي تلك وكأني طالب فاشل يبرر عدم حله للواجب! ولكن قولي لي ماذا بيدي إذ أُغلقت كل
السبل في وجوهنا حتى نبقى معا؟!! قولي لي كيف اأخذك وأشرد بكِ بعيد غير مبالٍ بأهلك وأهلي؟!
أنا عاجز جداااا وعجزي يسفكني .. تعبت من هذا الدور .. تعبت من الاطمئنان عليكِ كغريب..
تعبت وانا اراكِ تذبلين أمامي وبسببي.. تعبت وانا وحدي وانتِ وحدك! تعبت من أحلام رثة لم
تستطع الوقوف كثيرا أمام التيار.. تعبت من قدر يشاكسنا .. تعبت من قطار لم يأت أبدا في محطتنا
تعبت كثيراااا يا ليلى ولا أستطيع المضي أكثر .. أريد ان أزيل اثارك من حياتي لعل ضميري
يرتاح قليلا.. أعذريني فالظروف أمامي تتشابك أكثر كلما مضى بنا العمر وها أنا وأنتِ دخلنا
على أعقاب الثلاثينات من عمرنا وكل منا يواجه ضغوط من أهله أكثر.. والدي يوصيني
بأن أجعله يراني قبل ان يرحل العمر عنه .. فأتركيني أحقق أحلام غيري إن لم أستطع تحقيق
حلمي وحلمك.. اتركيني ألبي نداء سُنة الحياة كما فعل غيري..
أستودعك الله أن يحفظك وأن يريح قلبك وعقلك وأن تقابلي رجلا يزيل اثاري العفنة من قلبك
الطاهر.. أحببتك ولم أحب أحدا ولن أحب أحدا مثلك..
كتبت له: نعم أنت محق ‘ فأنا ولدت لأجدني مكبلة بقيود عادات وتقاليد مجتمع عقيم.. ولدت لأجدني
في مجتمع اسلاميا في البطاقة غجريا في التعامل ! يسر الله أمورك وحفظك ورعاك ..


ارتجفت أوصالها وشعرت بقشعريرة برودة تسري بداخلها لتنتشل كل ذرات الأمان التي كانت
تتدخرها على كلمات الاغنية التي كانت تشدو قائلة:
"كل حاجه ناقصة حاجة وانت مش جمبي حبيبي .. نفسي اعمل أي حاجة بس ترجعلي حبيبي"
أخذت تشهق وتصرخ بصوتٍ مذبوح وتضع يدها بشدة فوق شفاهها حتى لا يخرج صوت بكاها
فتحول إلى أنين يشنقها ‘ حتى سقطت أرضا..
نظرت الى الساعة فأخذت الهاتف وأدارت رقمه فسمعت صوته الدافىء يجلجل داخل أوصالها ثم
صوت بكاء طفلة صغيرة بجانبه وإمرأته تقول له: اعتني بطفلتك حتى آأخذ حماما ساخنا..
أغلقت الهاتف سريعا وأخذت تنظر حولها يائسة ‘ مجروحة ‘ معذبة الى أركان منزلها المعتم‘ البارد
السئيم وهي تتمتم:
"كل حاجه ناقصة حاجه وانت مش جمبي حبيبي.. نفسي اعمل أي حاجة بس ترجعلي حبيبي"
وارتمت أرضا مرة أخرى...